في وسط زحام تلك الوجوه وفي وسط ضجيج تلك المدرسة وقفت في وحدتي وحدي لا أحد معي .. ها هو جرس الفرصة يقرع لاهثاً .. التلميذات كالفراش يتهافتن إلى الخروج من الفصل .. فضلت نفسي البقاء بالفصل لا شيء يشجّعني على الخروج .. يال اتساع هذه المدرسة !! يال كثرة تلميذاتها !! يال وحدتي بها !!
تناولت فطوري لوحدي ، كنت قبل ذلك أتناوله مع صديقاتي ، لقد تبدل كل شيء منذ انتقلت إلى هذه المدرسة ، هذه الوحدة التي حاصرتني تكاد تقذف بي إلى البعيد ولكني سرعان ما قتلت هذا الإحساس بسيف الأمل في هذه المدرسة ، هذا هو الشّعور الذي انتابني ، وظلّت هذه الآية تتردد على لساني (وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم) أعطتني أملاً بحياة جديدة في هذه المدرسة ، هززت رأسي بالموافقة وبقيت أطلق النظر في تلك المدرسة الثانوية ..
قطع لحظات تفكيري ذلك الجرس الغاضب الهادر كأنّه جرس إنذار بالحرب هكذا تطلق عليه التلميذات هذه التسمية ، حملت نفسي لأجلس على ذلك المقعد الخلفي إنّه مقعدي الجديد .
تقاطرت التلميذات إلى الفصل متشاغلات بالضحك والمزاح ، وفجأة قُرع الباب قرعاً خفيفاً ؛ إنّها فاطمة معلّمة التربية الإسلامية ، أحبّ وجهها المنير وقلبها الطّيب المرح ، هي أوّل من ابتسم في وجهي في هذه المدرسة .
اجتمعت الطّالبات في الفصل وبدأ الدرس بتلاوة بعض الآيات المؤثرة ولكن فجأة ينتزعني صوت من أعماق إنصاتي ، أدقق السمع جيداً ، إنه نشيج لا يكاد يسمع ، أطلقت لبصري العنان للبحث عن مصدر الصوت ؛ إنّها طالبة تجلس في المقعد السابع أمامي تدعى أفنان ، لم يحس أحد بشيء بعد ذلك تم تفسير الآية وبذلك انتهى الدرس لهذا اليوم .
أفنان .. اسم ظل بذاكرتي له ذكرى جميلة جدّا .. أفنان يا ترى ما قصّتها !!
احتفظت بهذا السر لنفسي وأغلقت عليه قلبي وضيّعت مفتاحه ، بدأت أتطقس عن حال تلك التلميذة التي لفتت انتباهي وحازت على إعجابي بكل فخر ولكن لا أسمع إلاّ كلمة واحدة هي ( أفنان لم تعد كما كانت ) .. ( لقد تغيّرت أفنان عمّا كانت عليه ) .. كلمات لم أفهم معناها وبقيت في خاطري لها أثر ، يا ترى ما قصّتها !!
كانت هذه الأفكار كالدّوامة تدور في رأسي وأتخلّص منها بالاستعاذة دائماً من الشيطان الرّجيم ، لا بد من اليوم الذي أتعرّف فيه على أفنان ويال المفاجأة لقد كان هذا اليوم قريباً .. قريباً جداً .. في حصّة التربية البدنية ، تلاشت أفنان من أمامي وانزوت في زاوية في الملعب تقلّب صفحات مصحف صغير .. تبادرت الأسئلة في ذهني سؤال يجذبه سؤال المهم بدأت التدريبات الرّياضيّة وعرفت فيما بعد أنّ أفنان ممنوعة من التدريبات الرّياضيّة طبيّاً ولكن لم أعرف ما هو السبب الطّبيّ ، ظلّ هذا السؤال يخيم في نفسي حتى تعثّرت قدمي ووقعت أرضاً .. هل أصبت يا علياء؟ هل أُصبت؟ تعالت الأصوات من حولي ..
أذنت لي المدّرسة بالجلوس في أيّ مكان لأستريح .. اخترت مكاناً يقرب مسافة من عزيزتي أفنان .. وبينما أنا أخرج زفرات منهكة وإذا بسمعي يتلذذ بتلاوة كلمات من القرآن الكريم ذات صوت رائع .. أحسست بشيء يجذبني لأقترب من مصدرها ، أحببت أن أكلمها ولكن الكلمات منّي لم تخرج ، فجرفها سيل الإصرار والعزم إلى الأمام : ( أفنان صوتك جميلٌ جداً )
ساد في المكان هدوءٌ عجيب لم أعقب بعده بكلمة واحدة .. شقت تلك الكلمات ذلك السّكون الغامض بصوت من الحسرة والألم ، ولكنّه صوت المذنبين العاصين ، نظرت لعينيها التي ترقرقت بالدموع ، ولاحت الدّموع بعيني ومن منّا ليس مذنباً يا عزيزتي !! هاجت بالبكاء الطّاهر ( ولكن أنا أختلف عنكم أنا أفنان التي أعدّت نفسها لتكون من أهل النّار فهل يغفر لها ؟؟ )
تذكرت ضعفي أمام ربّي وتذكّرت ذلك النشيج الصّادق ورأيت تلك العينين الدّامعتين ، خرجت من قلبي كلمات قوية شقّت صخور الألم بقلبها الصّغير (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذّنوب جميعاً ) خرجت هذه الكلمات صافية نقية كنبع الماء من قلبي ليروي قلباً قد تعطّش لرحمة الله ، اقتربت أفنان منّي وضمّتني لصدرها الدّافئ الحزين ، أحسست بأنّ قصة تدور بهذا القلب قد أغلقت الأبواب عليها فلا تستطيع الخروج ، ضمَمْتها لي بقوّة وأنا أقول لها ما أجمل الحياة في ظلّ الأمل بالله ، أخذت يدي وهي تقول أنت التي أبحث عنها منذ زمن .. أنت .. لقد وجدتك أخيراً .. الحمد لله .. الحمد لله ...
تعاهدت القلوب قبل الألسنة على الأخوّة ومتابعة المسير إلى الله ، انتبهت إلى يدها وهي تساعدني للقيام ، آه لقد نسيت آلامي عندما عرفت ألم أختي ، لقد انتهت الحصة وحان وقت الانصراف ، أمسكت بيدها الداّفئة واتكأْتُ عليها ، حدقت بنا الأبصار باستغرابٍ عجيب ما أسرع هذه الصّداقة !!
مشينا في الطّريق معاً لا نبالي بما يقوله عنّا الآخرون وظلّت هذه الصّداقة ( بالأحرى هي أخوّة في الله ) تزداد يوماً بعد يوم وساعة بعد ساعة ، أصبحت أخوّتنا تدفعنا دائماً إلى الأمام في كل شيء : الطاعة في الله تعالى ، في بر الوالدين ، في الصبر على المصيبة ، في العمل لله ، كانت الأيّام جميلة برفقة أختي أفنان .
كنت دائماً أحاول التعرّف على ما يدور بنفسها غير أنّ هناك باباً ظلّ مغلقاً في وجهي دائماً لم أجد لهذا الباب مفتاحاً ، حاولت الغوص في الأعماق ، أكاد أختنق .. ما السر الذي لم تـبُـح به أفنان ؟؟ كلما أفاتحها بهذا الموضوع ترد عليّ بكلمات غريبة لا أفهم معناها : (السفر طويل ، والزاد قليل ، ولا وقت للمقيل ، رحل الصّالحون وبقي المذنبون البائسون) .
تغيبت أفنان عن المدرسة ، لا أعرف ما السبب ، ظللت في ذلك اليوم كئيبة وظللت أنتظر أفنان بفارغ الصّبر .. ظلّ المقعد فارغاً .. كانت تجلس بجانبي .. أفنان أختي يا ترى ماذا منعك اليوم عن الحضور ؟ كنت أتمنّى وأنا معها أن لا ينقضي اليوم الدراسيّ أبداً ولكن اليوم أراه قد طال جداً ، لقد انتهى ذلك اليوم .. نعم لقد انتهى ولكن بماذا انتهى ؟؟
عدت للمنزل متلهّفة لسماع صوت أختي أفنان ولكن شيئاً يمنعني من أن أتّصل بها ، مضت تلك السّاعات بصورة عجيبة .. كيف مضت يا ترى ؟
وعند المساء جاءني إحساس غريب ورغبة عارمة في أن أتصل بها .. أفنان .. أفنان .. رفعت سماعة الهاتف وللمرة الأولى أحسّ بالخوف لماذا هذا الخوف الذي يتملّكني ؟؟ لماذا ؟؟
يدي تحسّ بثقل شديد في الضّغط على الأزرار ، جسدي بدأ يرتعش كأنّي أحسّ بالموت يقترب منّي .. الموت .. الدّار الآخرة .. هذه الكلمات الأخيرة التي علقتها من تلك المكالمة .. يبس منّي اللسان ، واضطربت الجوارح والأركان ، وماتت الكلمات ، ما بقيت إلاّ كلمة واحدة : لا حول ولا قوّة إلاّ بالله اللهمّ أجرني في مصيبتي واخلفني خيراً منها .