أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها
ومواجهة المشاكل
نشأت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في بيت النبوة الطاهر، وأنْعِم بها من نَشْأة، لأن الذي يَتربى على يدي الرسول صلى الله عليه وسلم سيكون مدرسة بحد ذاته.
وهذا ما كان بالفعل في حالة أمنا عائشة؛ فقد تشبَّعت عقليتها بمفاهيم الإسلام وأفكاره، وأضحى سلوكها تطبيقا عمليا حيا، وتجسيدا لهذه الأفكار.
ومن كان هذا حاله فهل يُعقل أن يأتي بما يناقض ما تَجسَّد في عقله ونفسه من أفكار ومفاهيم وسلوك؟
ولم يكن هذا حال أمنا عائشة فقط، بل هو نمط متقدم جدا من أنماط السلوك الإسلامي الراقي عند الصحابة إجمالا، والذي تجد فيه الانسجام الفائق ما بين الأفكار والسلوك، وقَلَّما ينفصل أحدهما عن الآخر.
تعرضت أُمُّنا عائشة الطاهرة المطهرة الصادقة بنت الصديق لأعظم ما يمكن أن تُبتلى به امرأة عفيفة شريفة، ألا وهو القذف بالزنا.
وما أقساها من تجربة، وما أفظعها من تهمة.
فهي لم تكن محدودة ولا محصورة بين أشخاص أو بيت أو عائلة، لقد انتشرت في المجتمع بأسره، ورَوَّجت لها أبواق الدعاية والشر أيَّما ترويج.
إنها مشكلة كبيرة وابتلاء عظيم لا يتحمله إلا من كانت شخصيته في عظمتها بحيث تفوق هذه الصعوبة وتتغلب عليها.
فماذا فعلت أمنا عائشة تجاه هذه المشكلة العويصة؟
وكيف جابهتها وتصدت لها وتغلبت عليها؟
وما هي الدروس والعبر التي ترتبت عليها؟
ما هي المشكلة؟ وكيف نواجهها ونتغلب عليها؟
يمكن تعريف المشكلة بأنها الشعور أو الإحساس بوجود صعوبة لا بد من تخطيها،
أو عقبة لا بد من تجاوزها لتحقيق هدف.
أو يمكن القول: إنها الاصطدام بواقع لا نريده، فكأننا نريد شيئا ثم نجد خلافه.
وحتى نتمكن من مواجهة المشاكل والتغلب عليها لا بد من أن ننهج طريقة معينة نشعر فيها بوجود المشكلة، ونتعرف عليها ونُحدد طبيعتها، ثم نفكر في الحلول المتعددة، ثم نطبق الحل الأمثل، ونتأكد من ذلك، ثم نتفكر فيما حصل.
وهذا يتطلب بذل الجهد في التفكير في مراحل متعددة وفي مواضيع كثيرة، وقد تحصل أحيانا بسرعة فائقة وقد تستغرق وقتا. لكن لا بد من التدرُّب والتمرُّس على ذلك، واكتساب مهارات التفكير اللازمة لهذا الأمر.
كيف واجهت أم المؤمنين المشكلة؟
تُعرف المشكلة التي مرت بها أم المؤمنين عائشة رضى الله عنها بحادثة الإفك، وتتلخص في ترويج شائعة من قبل المنافقين وبعض المؤمنين تتضمن اتهام أم المؤمنين عائشة رضى الله عنها بالزنا،
وذلك عندما تَخلَّفت عن الجيش في إحدى الغزوات، ثم أحضرها الصحابي صفوان بن المعطل السلمي رضي الله عنه على ظهر جمله، وبعدها انطلقت الشائعات انطلاق النار في الهشيم.
وهي مشكلة ذات شقين:
الأول عندما وجدت أم المؤمنين نفسها وحيدة وقد تركها الجيش.
والثاني: عندما انتشرت الشائعة عنها وهي غافلة حتى عن مجرد التفكير في هذا الأمر.
فماذا فعلت أم المؤمنين تجاه هذه المشكلة بشقيها؟
1. الشعور بوجود المشكلة والوقوع فيها:
من المهم معرفة أنه لا معنى للمشكلة ما لم يَحس بها الشخص أو من له علاقة بها. فأُمُّنا عائشة أحسَّت أنها في مشكلة عندما عادت ولم تجد الجيش،
هذا بالنسبة للشق الأول من المشكلة.
أما من حيث الشق الثاني وهو اتهامها بالزنا؛ فقد أحست بالمشكلة عندما أخبرتها أم مِسْطح بما يشيع عنها. فلم تكن تحس بها من قبل؛ لأنها تعجبت مما قيل مع أنها دافعت عن مسطح في بداية الأمر.
2. الحفاظ على التماسك النفسي وعدم التضعضع والخوف:
فقد حافظت أُمُّنا على رباطة جأشها وتماسكت، مع أن الموقف في غاية الشدة؛ لأنها وحيدة وقد تركها الجيش ورحل.
وأيضا حافظت على توازنها عندما سمعت بالإشاعة وامتصت الصدمة، مع أنها تفاجأت وذُهلت لما قيل عنها، وكانت تتمثل قوله تعالى:
{فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون}.
ويتحقق التماسك النفسي بالاستعانة بالله تعالى بالدعاء والصلاة والذكر، وإحسان الظن بالله وبالمسلمين ممن لهم علاقة بالموضوع والتفاؤل بالخير.
كما أن للجانب الإيماني العام تأثيره.
ولا بد من الحفاظ على ذلك في كل مراحل حل المشكلة.
وهذا ما تمسكت به أمنا عائشة على الرغم من أنه قد رُوي عنها أنها تأثرت بالأمر، لكن ليس إلى الحد الذي يُخرج الإنسان عن تماسكه.
3. تحديد ماهية المشكلة ومعرفة أبعادها:
حددت أُمُّنا المشكلة في أن الجيش قد رحل وتركها فصارت وحيدة.
وهذا يترتب عليه أن تخاف على نفسها من الموت أو الأسر أو الاعتداء. كما حدَّدت المشكلة في الشق الثاني، وتعرفت عليها عندما علمت بالإشاعة، وأنهم قد رموها بالزنا.
وأي تهمة هذه؟!
وماذا يمكن أن يترتب عليها؟!
4. التفكير في حلول ممكنة للمشكلة:
ماذا يمكن أن يكون قد جال بخاطر أمنا:
* اللحاق بالجيش، لكنها لم تجد الراحلة، والظلام قد حل، ولا يمكنها السير لوحدها.
* البقاء في نفس المكان مع الاختباء.
* الذهاب إلى مكان آخر.
* الانتظار في نفس المكان في حالة عودة الجيش أو نفر منهم؛ لأنهم إذا فقدوها فلا بد أن يعودوا أدراجهم إلى المكان ليبحثوا عنها.
* البحث عن أحد قد تخلف مثلها من الجيش، أو أحد يتعقب الجيش.
أما من حيث الشق الثاني (أي حالة الإشاعة) فقد تكون أمنا فكرت فيما يلي:
* الدفاع عن نفسها.
* ترك الأمر للرسول صلى الله عليه وسلم مع البقاء في بيتها. لكن ربما لاحظت تأثر الرسول بالموضوع، وأنه قد سرى وانتشر.
* اللحاق بأهلها والصبر والاحتساب لله تعالى.
5. تطبيق الحل الملائم من بين الحلول والبدائل المتاحة:
ارتأت أمنا البقاء في مكان الجيش لعلهم يرجعون أو يرجع نفر منهم. وفعلا حضر صفوان، ويبدو أنها ظنت أنه مُرسَل من قِبَل الجيش، فركبت الجمل دون حتى أن تناقشه في الموضوع. ولهذا لم يخطر ببالها أن يقال ما قد قيل عنها؛ لأن هذا قد أرسله الجيش ليأخذها.
أما في موضوع القذف فقد طلبت من الرسول أن يأذن لها باللحاق بأهلها.
وحسنا فعلت؛ لأن الموضوع كان يحتاج إلى أن يُبَتًّ فيه، طالما أن الرسول لم ينطق بوحي فيه.
كما أن مواضيع مثل هذه تحتاج إلى التراخي فيها حتى تَسْكن وتهدأ؛ فكان اختيارها أن تذهب إلى بيت أهلها ينطوي على كثير من الحكمة والحنكة.
ومما يؤيد ذلك موافقة الرسول صلى الله عليه وسلم بسرعة على طلبها.
6. التفكر في المشكلة ونتائجها وأبعادها:
حيث تبين لأم المؤمنين أنها كانت على صواب فيما فكرت فيه واتخذته من قرارات.
وخرجت من المشكلة أقوى مما كانت؛ فقد برَّأها الله من فوق سبع سماوات، ونزل فيها قرآن يُتلى.
وترتب على ذلك الكثير من الأحكام والمعالجات؛ فكان في ذلك الخير الكثير.
كما أن مثل هذه المشاكل صار لها حل معلوم يمكن اتباعه في حالة وقوعها، وهذا لم يكن قبل وقوعها.
أثر التربية الإسلامية على قوة شخصية المسلم
لم يَعُد خافيا على أي منا حاجة المسلمين الماسة إلى التمسك بالقرآن والسنة؛ إذ لا غنى لنا عنهما، ولن تقوم لنا قائمة بغيرهما، ولن تكون لنا عزة إلا بهما.
وهذا يُحتِّم علينا فهم ما فيهما فهما عمليا واقعيا مُنَزَّلا على أرض الواقع، ومرتبطا به ارتباطا وثيقا، تماما كما كان يفعل الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته رضوان الله عليهم أجمعين.
ولا يكفي مجرد الحفظ والتلاوة والاستحضار، وإن كان كلُّ ذلك مطلوبا، وكلُّه فيه خير وعليه أجر، بل لا بد من الاستيعاب المركَّز والتطبيق الفعلي.
فلا يمكن لشخص مثلا أن يكون قد فَهِم معنى التوكل فهما استيعابيا عمليا، إذا كانت حياته قائمة فقط على الأسباب والمسببات، ولا يكون قد استوعب مفهومي الزرق والأجل إذا كان يقول بلسانه: "إن الرزق والأجل بيد الله"،
وسلوكه مخالف لذلك. وكذلك حال من يستهين بالأحكام ويستخف بها، قائلا: "إن الله غفور رحيم"، غيرَ ناظرٍ إلى جانب العقوبة.
الإسلام دين عملي؛ أي أنه وُجد للتطبيق، وما لم يكن هذا حاله فإنه يبقى مجرد معلومات نحفظها ونرددها.
من الأمثلة الواقعية على ذلك كيفية مواجهة المشاكل والتغلب عليها وحلها؛ فقد رَبّى الإسلام أتباعه على الطريقة التي يُعالجون بها مشاكلهم سواء كانت خاصة بهم أو عامة تشمل غيرهم، ووطَّن نفوسهم على ذلك.
ولتحقيق ذلك فقد نهج الإسلام نهجين: عاما وخاصا.
أما العام فإنه يرتكز على بناء مجتمع متجانس في العقيدة والأحكام؛ أي أنهما ينبعان من نفس المصدر والمورد؛ فلا يوجد تناقض في السلوك لا في المجتمع ولا عند الأفراد.
فإنك إن ربَّيت أبناءك على أفكار معينة فستكون مطمئنا أنهم لن يجدوا ما يُناقض ذلك خارج نطاق الأسرة؛ فتَقِل بذلك المشاكل.
كما أنه يفرض على المجتمع حياة عامة توفر على الفرد الكثير من العناء، فيمنع المثيرات ويُوجِّه الإعلام وِجهة تحد من إثارة الغرائز وتهييجها، ويحد من الاختلاط، كما يقيِّد السلوك في كثير من المجالات بشكل يكون كفيلا بالحد من الكثير من المشاكل.
وهكذا فالإسلام يبني دفاعات حصينة في وجه المشاكل، سواء على المستوى الفردي أو الجماعي أو في الأسرة. فالكل في انسجام وتوافق، وهذا يقلل من الانحرافات والاصطدامات التي قد تنشأ بسبب اختلاف الأفكار أو التطبيق المُجَزأ لأفكار دون أخرى، أو التناقض. وهذه نقطة مهمة عند كل فرد مسلم؛ فإنه لا بد أن يُفكر في مجتمعه، وأن يسعى إلى وجود مثل هذا المجتمع، وأن يكون مستمرا في هذا النهج؛ وذلك ليضمن عدم التناقض وعدم ضياع نفسه وأهله وأبنائه في خضم التناقضات.
فإنك قد تربي أبناءك تربية صحيحة، لكن لا تضمن أن يتسرب الفساد إليهم من المدرسة أو الشارع أو العمل بسبب التناقضات.
وهذا جزء من النهج الخاص الذي اختُطَّ للفرد المسلم الذي سيواجه المشاكل والصعوبات، ويفكر في حلها والتغلب عليها.